عن اعتداء آثم في "الأقصى"
كتب: إبراهيم فريحات
أقدم مصلّون، يوم الجمعة الماضي (21/5/2021)، على الاعتداء لفظياً على المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، خطيب المسجد الأقصى الشيخ محمد حسين، بعد صلاة الجمعة، ورددوا هتافات تطالبه بمغادرة المسجد، على اعتبار أنه موظف من السلطة الفلسطينية التي هتفوا ضدها أيضاً، ولأنه، بحسبهم، لم يتناول موضوع الحرب في غزّة بالمستوى الذي يستحق. هذا الاعتداء آثم ومدان بأشد الاعتبارات، ليس فقط لأن فيه انتهاكا لحرمة المسجد الأقصى الذي لا يليق به ما تم التلفظ فيه بتلك العبارات، ولكن ايضاً للتاريخ الوطني المشرّف لسماحة الشيخ محمد حسين الذي اعتقلته مرات عديدة قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهو يدافع عن الأقصى بكل ما أوتي من قوة. كما أن التوقيت الذي حدث فيه الاعتداء يأتي في مرحلة حرجة الفلسطينيون هم بأمسّ الحاجة فيها لوحدتهم الوطنية للتصدي للمخاطر التي يمر بها مشروعهم الوطني الناجمة عن الهجوم الإسرائيلي الشرس على الفلسطينيين في كل مكان في القدس، حي الشيخ جرّاح مثلا، وباقي المناطق الفلسطينية، وتعدٍّ من هذا النوع يمثل ضربة لوحدتهم الوطنية.
مثل رموز وطنية كثيرة في فلسطين، استنكرت السلطة الفلسطينية هذا التعدّي واعتبرته مساساً بالوحدة الوطنية في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية بحق المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس. واتهمت جهات عديدة حزب التحرير الإسلامي بأنه وراء هذا الاعتداء، وطالبته بالكف عن مثل هذا بحق رموز وطنية وإسلامية بمقام الشيخ محمد حسين. وكان الحزب قد اتهم بالاعتداء على وزير الخارجية المصري السابق أحمد ماهر، في ديسمبر/ كانون الأول 2003، بالأحذية، عند وصوله إلى المسجد الأقصى. لم يتبن الحزب الهجوم على الشيخ حسين رسمياً، وبغض النظر عما إذا كان قد اتخذ قرارا بهذا، أو أن ثلة من شبابه قاموا بذلك من تلقاء أنفسهم، فمن الضروري توضيح أن الحزب، وضمن سياساته ومبادئه الرسمية المعلنة، لا يعتبر نفسه جزءًا من النضال الوطني الفلسطيني بشكله الحالي الذي تنخرط فيه الأحزاب والحركات الفلسطينية الأخرى، والذي يقوم على المواجهة المباشرة، المسلحة منها والسلمية، للشعب الفلسطيني مع قوات الاحتلال الإسرائيلي. وبما أنه ليس جزءًا من عملية النضال الوطني، من المستهجن أن يزج هذا الحزب نفسه بتقييم نتائج المواجهة التي توبعت أخيراً، لا بل وبمنح نفسه الحق بمحاسبة عناصرها، سواء ممن ينتمون لمعسكر السلطة الفلسطينية أو حركة حماس أو أي من الفصائل الوطنية الأخرى. والأغرب أن تأخذ عملية المحاسبة شكل الاعتداء الخارج عن القانون، وبقرارات فردية خارجة عن التقاليد والأعراف الوطنية والإسلامية.
وفي الوقت نفسه، تعتري الخطاب الذي يحصر مشكلة الاعتداء الآثم على فضيلة الشيخ حسين بحزب التحرير، أو بمجموعة من شبابه المصلين في الأقصى، إشكالات عديدة، يمكن لها أن تُحدث ضرراً للمشروع الوطني أكثر من الاعتداء نفسه.
أولاً: لم يتم تقديم دليل قاطع بأن من قام بالاعتداء منتمون لحزب التحرير. وهنا يمكن التساؤل كيف لمسؤولي السلطة الفلسطينية في رام الله التنبؤ بالهوية الحزبية لمن ارتكبوا هذا الفعل، وهم مصلون، كانوا في المسجد الأقصى وقت خطبة الجمعة. هل صرّح أحدهم بذلك، وهل توجهت جهة معينة إلى سؤال أحدهم عن انتمائهم الحزبي، أم أن استطلاعا للرأي جرى مع هؤلاء، وتم التعرف إلى هوياتهم الحزبية من خلاله؟
ثانياً: لنفرض أنهم ينتمون فعلاً لحزب التحرير، فالسؤال إذاً ماذا عن بقية المصلين الذين كانوا وقت الاعتداء، ومعلوم أن أعدادا هائلة تؤدي صلواتها في الأقصى يوم الجمعة؟ لماذا لم يحرك أحدهم ساكناً وهم يرون الإهانات توجه إلى الشيخ الخطيب. لقد أظهرت تسجيلات مرئية أن الغالبية العظمى منهم كانوا يصوّرون الحدث بكاميرات هواتفهم.
ثالثاً: لم يشارك عموم المصلين بالاعتداء، ولكنهم لم يثوروا ضده. كان واضحا لدى عموم المصلين أن الهتافات لم تستهدف الشيح محمد حسين شخصياً، ولكنهم صمتوا لأنها كانت تستهدف رموز السلطة الفلسطينية نفسها. لقد عرف كثيرون منهم الشيخ، وهم يكنون الاحترام له، وقبلوا أن يصلوا وراءه، ويعرفون تاريخه الوطني المشرّف، ويعرفون شخصيته أيضاً التي يشهد لها كثيرون بحسن الخلق والتواضع.
رابعاً: يكشف الحادث حالة احتقان شديد في المجتمع الفلسطيني ضد رموز السلطة الذين يعتقد كثيرون فيه أن أداءهم خلال الحرب أخيرا كان مخيباً للآمال بشدة وعلى مستويات عديدة. ويكشف عن جذور أزمة عميقة تعصف بالمجتمع الفلسطيني ومشروعه الوطني، وللأسف كانت ضحيتها شخصية دينية مرموقة، وفي "المسجد الأقصى الذي باركنا حوله". ويمكننا التخيل لو أن أحد رجالات السلطة الفلسطينية الرسميين كان موجودا، كيف ستكون ردّة الفعل.
خامساً: يكشف الحادث أيضاً عن وجود أزمة أخرى، تكمن بعلاقة خطباء المساجد مع عموم المصلين. تتمثل الأزمة في غياب مساءلة جمهور المصلين الخطيب، عندما لا يرتقي ومحتوى خطبة الجمعة إلى عمق المأساة التي تعيشها الأمة في زمن معين. وهنا يمكن التساؤل: لماذا يؤخذ الناس رهائن لخطباء المساجد، يقرّرون لهم كل يوم جمعة ما يريدون أن يُسمعوهم إياه، من دون السماع منهم عن آلامهم وآمالهم، وما يطمحون أن يسمعوه من قيادتهم الدينية. إنها علاقة باتجاه واحد يغيب فيها الصوت الجمعي للمصلين الذين يتوقعون أن يرتقي الخطاب الديني إلى المحن التي تعيشها الأمة. وتزداد هذه الأزمة عمقاً حين نعلم أن موظفي السلطة الفلسطينية الرسميين هم الذين يحدّدون، في أحيانٍ كثيرة، موضوع الخطبة وتوجهاتها كل مرّة.
وبالعودة إلى حالة الاحتقان وأزمة الثقة بين السلطة الفلسطينية وعامة الناس، فلربما عملت هذه الأزمة على دق ناقوس الخطر بشأن حالة التوتر في علاقة المجتمع بالسلطة، وأزمة الشرعية التي تعايشها القيادات المتنفذة في الوقت الراهن. لقد كان تأجيل الانتخابات العامة خطأ، والتمادي في تأجيلها خطيئة. لا يمكن بأي حال الاستمرار في تجاهل اختيار الشعب الفلسطيني من يمثلونه، ويتم أخذهم رهينة لقرارات الحاكم، يوماً يقرر إجراء الانتخابات ويوما آخر يؤجلها أو يلغيها. الانتخابات حق للمواطن، وليست امتيازا بيد الحاكم. يراكم هذا الاستهتار بحقوق المواطن حالة الاحتقان المجتمعي، حتى تصل أخيراً إلى الانفجار، ولنا في ثورات الربيع العربي دروس كثيرة. الفرصة الآن بيد السلطة التنفيذية، لتقوم بعملية إصلاح منظم تفرغ حالة الاحتقان، وترمم الشرعية المتآكلة، ولا سيما أن المواجهة مع الاحتلال، أخيرا، في غزّة، ووحدة الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده فيها، فتحت الأبواب أمام تحقيق إنجازات وطنية غير مسبوقة من المحرّمات السماح بضياعها.